فصل: ذكر غزوته أبا زوجته جرادة ونكاحها وعبادة الصنم في داره وأخذ خاتمه وعوده إليه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملك داود:

هو داود بن إيشي بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمّي نوذب بن رام بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن اسحاق، وكان قصيراً أزرق قليل الشعر، فلما قتل طالوت أتى بنو إسرائيل داود فأعطوه خزائن طالوت وملّكوه عليهم، وقيل: إن داود ملك قبل أن يُقتل جالوت؛ وسبب ملكه حينئذٍ أن الله أوصى إلى اشمويل ليأمر طالوت بغزو مدين وقتل من بها، فسار إليها وقتل من بها إلا ملكهم، فإنه أخذه أسيراً، فأوحى الله إلى اشمويل: قل لطالوت آمرك بأمر فتركته لأنزعن الملك منك ومن بنيك ثمّ لا يعود فيكم إلى يوم القيامة، وأمر اشمويل بتمليك داود، فملّكه وسار إلى جالوت فقتله، والله أعلم.
فلما ملك بني اسرائيل جعله الله نبيّاً وملكاً وأنزل عليه الزبور وعلمه صنعة الدروع، وهو أول من عملها، وألان له الحديد، وأمر الجبال والطير يسبحون معه إذا سبح، ولم يعط الله أحداً مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها وإنها لمصيخة تسمع صوته.
وكان شديد الاجتهاد كثير العبادة والبكاء، وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر، وكان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف، وكان يأكل من كسب يده.
وفي ملكه مسخ أهل أيلة قردة؛ وسبب ذلك أنهم كانوا تزتيهم يوم السبت حيتان البحر كثيراً، فإذا كان غير يوم السبت لا يجيء إليهم منها شيء، فعملوا على جانب البحر حياضاً كبيرة وأجروا إليها الماء، فإذا كان آخر نهار يوم الجمعة فتحوا الماء إلى الحياض فتدخلها الحيتان ولا تقدر على الخروج عنها، فيأخذونها يوم الأحد، فنهاهم بعض أهلها فلم ينتهوا، فمسخهم الله قردة وبقوا ثلاثة أيام وهلكوا.

.ذكر فتنته بزوجة أوريا:

ثم إن الله ابتلاه بزوجة أوريا، وكان سبب ذلك أنه قد قسم زمانه ثلاثة أيام، يوماً يقضي فيه بين الناس، ويوماً يخلوا فيه للعبادة، ويوماً يخلو فيه مع نسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان يحسد فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب: أي ربيّ أرى الخير قد ذهب به آبائي فأعطني مثل ما أعطيتهم فأوحى الله إليه: إن آباءك ابتلوا ببلاء فصبروا، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه، وابتلي اسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على يوسف، فقال: ربّ ابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم، فأوحى الله إليه: إنك مبتلىً فاحترس.
وقيل: كان سبب البليّة أنه حدّث نفسه أنه يطيق أن يقطع يوماً بغير مقارفة سوء، فلما كان اليوم الذي يخلو فيه للعبادة عزم على أن يقطع ذلك اليوم بغير سوء وأغلق بابه وأقبل على العبادة، فإذا هو بحمامة من ذهب فيها كل لون حسن قد وقعت بين يديه، فأهوى ليأخذها، فطارت غير بعيد من غير أن ييأس من أخذها، فما زال يتبعها وهي تفرّ منه حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه حسنها، فلما رأت ظلّه في الأرض جلّلت نفسها بشعرها فاستترت به، فزاده ذلك رغبةً، فسأل عنها فأخبر أن زوجها بثغر كذا، فبعث إلى صاحب الثغر بأن يقدّم أوريا بين يدي التابوت في الحرب، وكان كل من يتقدّم بين يدي التابوت لا ينهزم، إمّا أن يظفر أو يقتل، ففعل ذلك به فقُتل.
وقيل: إنّ داود لما نظر إلى المرأة فأعجبته فسأل عن زوجها، فقيل: إنّه في جيش كذا، فكتب إلى صاحب الجيش أن يبعثه في سريّة إلى عدوّ كذا ففعل ذلك، ففتح الله عليه، فكتب إلى داود فأمر داود أن يرسل أيضاً إلى عدوّ كذا أشدّ منه، ففعل، فظفر، فأمر داود أن يرسل إلى عدوّ ثالث، ففعل، فقتل أوريا في المرّة الثالثة، فلمّا قتل تزوج داود امرأته، وهي أم سليمان في قول قتادة.
وقيل: إن خطيئة داود كانت أنه لما بلغه حسن امرأة أوريا تمنّى أن تكون له حلالاً، فاتفق أن أوريا سار إلى الجهاد فقتل فلم يجد له من الهم ما وجده لغيره، فبينما داود في المحراب يوم عبادته وقد أغلق الباب إذ دخل عليه ملكان أرسلهما الله إليه من غير الباب، فراعه ذلك فقالا: {لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزَّني في الخطاب} ص: 22: 32، أي قهرني، وأخذ نعجتي، فقال للآخر: ما تقول؟ قال: صدق، إني أردت أن أُكمل نعاجي مائة فأخذت نعجته، فقال داود: إذاً لا ندعك وذاك، فقال الملك: ما أنت بقادر عليه، قال داود: فإن لم تردّ عليه ماله ضربنا منك هذا وهذا، وأومأ إلى أنفه وجبهته، قال: يا داود أنت أحقّ أن يُضرب منك هذا وهذا حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلاّ امرأة واحدة فلم تزل به حتى قتل وتزوجت امرأته، ثمّ غابا عنه.
فعرف ما ابتلي به وما وقع فيه، فخرّ ساجداً أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بدَّ منها، وأدام البكاء حتى نبت من دموعه عشب غطى رأسه، ثمّ نادى: ياربّ قرح الجبين وجمدت العين وداود لم يرجع إليه في خطيئته بشيء، فودي: أجائع فتطعم أم مريض فتشفى أم مظلوم فتنصر؟ قال: فنحب نحبةً هاج ما كان نبت، فعند ذلك قبل الله توبته وأوحى إليه: ارفع رأسك فقد غفرتُ لك، قال: يا ربّ كيف أعلم أنك قد غفرت لي؟ وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء إذا جاء أوريا يوم القيامة آخذاً رأسه بيمينه تشخب أوداجه دماً قبل عرشك يقول: يا ربّ سلْ هذا فيم قتلني، فأوحى الله إليه: إذا كان ذلك دعوته وأستوهبك منه فيهبك لي فأهبه بذلك الجنة، قال: يا ربّ الآن علمت أنك قد غفرت لي.
قال: فما استطاع داود بعدها أن يملأ عينه من السماء حياء من ربه حتى قبض، ونقش خطيئته في يده، فكان إذا رأها اضطربت يده، وكان يؤتى بالشراب في الإناء ليشربه فكان يشرب نصفه أو ثلثيه فيذكر خطيئته فينتحب حتى تكاد مفاصله يزول بعضها من بعض ثمّ يملأ الإناء من دموعه، وكان يقال: إنّ دمعة داود تعدل دموع الخلائق، وهو يجيء يوم القيامة وخطيئته مكتوبة بكفّه فيقول: يا ربّ ذنبي ذنبي قدِّمني، فيقدَّم، فلا يأمن فيقول: يا ربّ أخرني، فلا يأمن.
وأزالت الخطيئة طاعة داود عن بني إسرائيل واستخفّوا بأمره، ووثب عليه ابن له يقال له إيشي وأمّه ابنة طالوت فدعا إلى نفسه، فكثر أتباعه من أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلمّا تاب الله على داود اجتمع إليه طائفة من الناس فحارب ابنه حتى هزمه ووجّه إليه بعض قوّاده وأمره بالرفق به والتلطف لعله يأسره ولا يقتله، وطلبه القائد وهو منهزم فاضطره إلى شجرة فقتله، فحزن عليه داود حزناً شديداً وتنكّر لذلك القائد.

.ذكر بناء بيت المقدس ووفاة داود عليه السلام:

قيل: أصاب النّاس في زمان داود طاعون جارف، فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس، وكان يرى الملائكة تعرج منه إلى السماء، فلهذا قصده ليدعو فيه، فلمّا وقف موضع الصخرة دعا الله تعالى في كشف الطاعون عنهم، فاستجاب له ورفع الطاعون، فاتخذوا ذلك الموضع مسجداً، وكان الشروع في بنائه لإحدى عشرة سنة مضت من ملكه، وتوفي قبل أن يستتمّ بناءه، وأوصى إلى سليمان بإتمامه وقتل القائد الذي قتل أخاه إيشي بن داود.
فلّما توفي داود ودفنه سليمان تقدّم بإنفاذ أمره فقتل القائد واستتم بناء المسجد، بناه بالرخام وزخرفه بالذهب ورصعه بالجواهر، وقوي على ذلك جميعه بالجنّ والشياطين، فلمّا فرغ اتخذ ذلك اليوم عيداً عظيماً وقرّب قرباناً، فتقبّله الله منه، وكان ابتداؤه أوّلاً ببناء المدينة، فلمّا فرغ منها ابتدأ بعمارة المسجد، وقد أكثر الناس في صفة البناء مما يستبعد ولا حاجة إلى ذكره.
وقيل: إنّ سليمان هو الذي ابتدأ بعمارة المسجد، وكان داود أراد أن يبنيه فأوحى الله إليه: إن هذا بيت مقدّس وإنك قد صبغت يدك في الدماء فلست ببانيه، ولكن ابنك سليمان يبنيه لسلامته من الدماء، فلمّا ملك سليمان بناه.
ثمّ إنّ داود توفي وكان له جارية تغلق الأبواب كل ليلة وتأتيه بالمفاتيح فيقوم إلى عبادته، فأغلقتها ليلة فرأت في الدار رجلاً فقالت: من أدخلك الدار؟ فقال: أنا الذي أدخل على الملوك بغير إذن، فسمع داود قوله فقال: أنت ملك الموت؟ قال: نعم، قال: فهلاّ أرسلت إليّ لأستعدّ للموت؟ قال: قد أرسلتُ إليك كثيراً، قال: من كان رسولك؟ قال: أين أبوك وأخوك وجارك ومعارفك؟ قال: ماتوا، قال: فهم كانوا رسلي إليك لأنك تموت كما ماتوا ثمّ قبضه، فلمّا مات ورث سليمان ملكه وعلمه ونبوّته.
وكان له تسعة عشر ولداً، فورثه سليمان دونهم، وكان عمر داود لما توفي مائة سنة، صحّ ذلك عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وكانت مدّة ملكه أربعين سنة.

.ذكر ملك سليمان بن داود عليه السلام:

لما توفي داود ملك بعده ابنه سليمان على بني إسرائيل، وكان ابن ثلاث عشرة سنة، وآتاه مع الملك النبوّة، وسأل الله أن يؤتيه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب له وسخّر له الإنس والجنّ والشياطين والطير والريح، فكان إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإنس والجنّ حتى يجلس.
وقيل: إنهما سخّر له الريح والجنّ والشياطين والطير وغير ذلك بعد أن زال ملكه وأعاده الله سبحانه إليه على ما نذكره.
وكان أبيض جسيماً كثير الشعر يلبس البياض، وكان أبوه يستشيره في حياته ويرجع إلى قوله، فمن ذلك ما قصّه الله في كتابه في قوله: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث} الأنبياء: 21: 78؛ الآية، وكان خبره: أنّ غنماً دخلت كرماً فأكلت عناقيده وأفسدته، فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: أو غير ذلك، أن تسلّم الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها إلى أن يعود كرمه إلى حاله ثمّ يأخذ كرمه ويدفع الغنم إلى صاحبها، فأمضى داود قوله، وقال الله تعالى: {ففهّمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلما} الأنبياء: 79.
قال بعض العلماء: في هذا دليل على أنّ كلّ مجتهد في الأحكام الفرعيّة مصيب، فإن داود أخطأ الحكم الصحيح عند الله تعالى وأصابه سليمان، فقال الله تعالى: {وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً}.
وكان سليمان يأكل من كسب يده، وكان كثير الغزو، وكان إذا أراد الغزو أمر بعمل بساط من خشب يسع عسكره ويركبون عليه هم ودوابهم وما يحتاجون إليه، ثمّ زمر الريح فحملته فسارت في غدوته مسيرة شهر وفي روحته كذلك، وكان له ثلاثمائة زوجة وسبعمائة سرّيّة، وأعطاه الله أجراً أنّه لا يتكلّم أحد بشيء إلاّ حملته الريح إليه فيعلم ما يقول.

.ذكر ما جرى له مع بلقيس:

نذكر أولاً ما قيل في نسبها وملكها، ثمّ ما جرى له معها، فنقول: قد اختلف العلماء في اسم آبائها، فقيل: إنها هي بلقمة ابنة ليشرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل: هي بلقمة ابنة هادد واسمه ليشرح بن تبّع ذي الأذعار بن تبّع ذي المنار بن تبّع الرايش، وقيل في نسبها غير ذلك لا حاجة إلى ذكره.
وقد اختلف النّاس في التبابعة وتقديم بعضهم على بعض وزيادة في عددهم ونقصان، اختلافاً لا يحصل الناظر فيه على طائل، وكذا أيضاً اختلفوا في نسبها اختلافاً كثيراً، وقال كثير من الرواة: إنّ أمّها جنّيّة ابنة ملك الجنّ واسمها رواحة بنت السكر، وقيل: اسم أمّها يلقمة بنت عمرو بن عمير الجنّيّ، وإنّما نكح أبوها إلى الجنّ لأنّه قال: ليس في الإنس لي كفوة، فخطب إلى الجنّ فزوّجوه.
واختلفوا في سبب وصوله إلى الجنّ حتى خطب إليهم فقيل: إنّه كان لهجاً بالصيد، فربّما اصطاد الجنّ على صور الظباء فيخلّي عنهنّ، فظهر له ملك الجنّ وشكره علي ذلك واتخذه صديقاً، فخطب ابنته فأنكحه على أن يعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن؛ وقيل: إنّ أباها خرج يوماً متصيّداً فرأي حديتين تقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء علي البيضاء فزمر بقتل السوداء وحمل البيضاء وصبّ عليها ماء، فأفاقت، فأطلقها وعاد إلى داره وجلس منفرداً، وإذا معه شابّ جميل، فذعر منه، فقال له: لا تخف أنا الحيّة التي أنجيتني، والأسود الذي قتلته غلامٌ لنا تمرّد علينا وقتل عدّة من أهل بيتي؛ وعرض عليه المال وعلم الطبّ، فقال: أمّا المال فلا حاجة لي به، وأمّا الطبّ فهو قبيح بالملك، ولكن إن كان لك بنت فزوّجنيها، فزوّجه على شرط أن لا يغيّر عليها شيئاً تعمله ومتى غيّر عليها فارقته، فأجابه إلى ذلك، فحملت منه فولدت له غلاماً فألقته في النّار، فجزع لذلك وسكت للشرط، ثمّ حملت منه فولدت جارية فألقتها إلى كلبة فأخذتها، فعظم ذلك عليه وصبر للشرط، ثمّ إنّه عصي عليه بعضُ أصحابه فجمع عسكره فسار إليه ليقاتله وهي معه، فانتهى إلي مفازة، فلمّا توسّطها رأى جميع ما معهم من الزاد يخلط بالتراب، وإذا الماء يُصبّ من القرب والمزاود، فأيقنوا بالهلاك وعلموا أنّه من فعال الجنّ عن أمر زوجته، فضاق ذرعاً عن حمل ذلك، فأتاها وجلس وأومأ إلى الأرض وقال: يا أرض صبرتُ لكِ على إحراق ابني وإطعام الكلبة إبنتي ثمّ أنتِ الآن قد فجعتنا بالزاد والماء وقد أشرفنا على الهلاك فقالت المرأة: لو صبرت لكان خيراً لك، وسأخبرك: إنّ عدوّك خدع وزيرك فجعل السمّ في الأزواد والمياه ليقتلك وأصحابك، فمر وزيرك ليشرب ما بقي من الماء ويأكل من الزاد، فأمره فامتنع، فقتله، ودلّتهم على الماء والميرة من قريب وقالت: أما ابنك فدفعته إلى حاضنة تربيّه وقد مات، وأمّا ابنتك فهي باقية، وإذا بجويرية قد خرجت من الأرض، وهي بلقيس، وفارقته امرأته وسار إلى عدوّ فظفر به.
وقيل في سبب نكاحه إليهم غير ذلك، والجميع حديث خرافة لا أصل له ولا حقيقة.
وأمّا ملكها اليمن فقيل: إنّ أباها فوّض إليها الملك فملكت بعده، وقيل: بل مات عن غير وصيّة بالملك لأحد، فأقام النّاس ابن أخ له، وكان فاحشاً خبيثاً فاسقاً لا يبلغه عن بنت قيل ولا ملك ذات جمال إلاّ أحضرها وفضحها، حتى انتهى إلى بلقيس بنت عمّه، فأراد ذلك منها فوعدته أن يحضر عندها إلى قصرها وأعدّت له رجلين من أقاربها وأمرتهما بقتله إذا دخل إليها وانفرد بها، فلما دخل إليها وثبا عليه فقتلاه، فلما قتل أحضرت وزراءه فقرّعتهم فقالت: أما كان فيكم من يأنف لكريمته وكرائم عشيرته ثمّ أرتهم إيّاه قتيلاً وقالت: اختاروا رجلاً تملّكونه، فقالوا: لا نرضى بغيرك؛ فملكوها.
وقيل: إنّ أباها لم يكن ملكاً وإنما كان وزير الملك، وكان الملك خبيثاً، قبيح السيرة يأخذ بنات الأقيال والأعيان والأشراف، وإنها قتلته، فملّكها الناس عليهم.
وكذلك أيضاً عظموا ملكها وكثرة جندها فقيل: كان تحت يدها أربعمائة ملك، كلّ ملك منهم على كورة، مع كلّ ملك منهم أربعة آلاف مقاتل، وكان لها ثلاثمائة وزير يدبّرون ملكها، وكان لا اثنا عشر قائداً يقود كلّ قائد منهم اثني عشر ألف مقاتل.
وبالغ آخرون مبالغة تدلّ على سخف عقولهم وجهلهم، قالوا: كان لها اثنا عشر ألف قَيْل، تحت يد كلّ قيل مائة ألف مقاتل، مع كل مقاتل سبعون ألف جيش، في كل جيش سبعون ألف مبارز، ليس فيهم إلا أبناء خمس وعشرين سنة، وما أظنّ الساعة راوي هذا الكذب الفاحش عرف الحساب حتى يعلم مقدار جهله، ولو عرف مبلغ العدد لأقصر عن إقدامه على هذا القول السخيف، فإن أهل الأرض لا يبلغون جميعهم شبابهم وشيوخهم وصبيانهم ونساؤهم هذا العدد، فيكف أن يكونوا أبناء خمس وعشرين سنة فيا ليت شعري كم يكون غيرهم ممن ليس من أسنانهم، وكم تكون الرعيّة وأرباب الحرف والفلاحة وغير ذلك، وإنما الجند بعض أهل البلاد، وإن كان الحاصل من اليمن قد قلّ في زماننا فإنّ رقعة أرضه لم تصغر، وهي لا تسع هذا العدد قياماً كلّ واحد إلى جانب الآخر.
ثمّ إنهم قالوا: أنفقت على كوة بيتها التي تدخل الشمس منها فتسجد لها ثلاثمائة ألف أوقية من الذهب، وقالوا غير ذلك، وذكروا من أمر عرشها ما يناسب كثرة جيشها، فلا نطول بذكره، وقد تواطأوا على الكذب والتلاعب بعقول الجهّال واستهانوا بما يلحقهم من استجهال العقلاء لهم، وإنما ذكرنا هذا على قبحه ليقف بعض من كان يصدق به عليه فينتهي إلى الحقّ.
وأما سبب مجيئها إلى سليمان وإسلامها فإنه طلب الهدهد فلم يره، وإنما طلبه لأنّ الهدهد يرى الماء من تحت الأرض فيعلم هل في تلك الأرض ماء أم لا، وهل هو قريب أم بعيد، فبينما سليمان في بعض مغازيه احتاج إلى الماء فلم يعلم أحد ممن معه بعده، فطلب الهدهد ليسأله عن ذلك فلم يره، وقيل: بل نزلت الشمس إلى سليمان، فنظر ليرى من أين نزلت لأنّ الطير كانت تظلّه، فرأى موضع الهدهد فارغاً، فقال: {لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين} النمل: 21.
وكان الهدهد قد مرّ على قصر بلقيس فرأى بستاناً لها خلف قصرها، فمال إلى الخضرة، فرأى فيه هدهداً فقال له: أين أنت عن سليمان وما تصنع ها هنا؟ فقال له: ومن سليمان؟ فذكر له حاله وما سخّر له من الطير وغيره، فعجب من ذلك، فقال له هدهد سليمان: وأعجب من ذلك أنّ كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة {وأوتيت من كلّ شيء ولها عرش عظيم} النمل: 23، وجعلوا الشكر لله أن سجدوا للشمس من دونه، وكان عرشها سريراً من ذهب مكلّل بالجواهر النفيسة من اليواقيت والزبرجد واللؤلؤ.
ثمّ إنّ الهدهد عاد إلى سليمان فأخبره بعذره في تأخيره، فقال له: اذهب بكتابي هذا فألقه إليها، فوافاها وهي في قصرها فألقاه في حجرها، فأخذته وقرأته وأحضرت قومها وقالت: {إني ألقي إليّ كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين يا أيها الملأ ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون} النمل: 29- 32.
{قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين} النمل: 33، قالت: {إني مرسلة إليهم بهدية} النمل: 35 فإن قبلها فهو من ملوك الدنيا فنحن أعزّ منه وأقوى، وإن لم يقبلها فهو نبيّ من الله.
فلما جاءت الهدية إلى سليمان قال للرسل: {أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم} إلى قوله: {وهم صاغرون} النمل: 36- 37، فلما رجع الرسل إليها سارت إليه وأخذت معها الأقيال من قومها، وهم القوّاد، وقدمت عليه، فلمّا قاربته وصارت منه على نحو فرسخ قال لأصحابه: {أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجنّ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} النمل: 38- 39، يعني قبل أن تقوم في الوقت الذي تقصد فيه بيتك للغداء، قال سليمان: أريد أسرع من ذلك، ف {قال الذي عنده علم من الكتاب} وهو آصف بن برخيّا، وكان يعرف اسم الله الأعظم: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} النمل: 40، وقال له: انظر إلى السماء وأدم النظر فلا تردّ طرفك حتى أحضره عندك، وسجد ودعا، فرأى سليمان العرش قد نبع من تحت سيريره، فقال: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر} إذ أتاني به قبل أن يرتدّ إليّ طرفي {أم أكفر} إذ جعل تحت يدي من هو أقدر مني على إحضاره.
فلما جاءت قيل: {أهكذا عرشك قالت كأنه هو} النمل: 42 ولقد تركته في حصون وعنده جنود تحفظه فكيف جاء إلى ها هنا؟.
فقال سليمان للشياطين: ابنوا لي صرحاً تدخل عليّ فيه بلقيس، فقال بعضهم: إنّ سليمان قد سخّر له من سخّر وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد غلاماً فلا ننفك من العبودية أبداً، وكانت امرأة شعراء الساقين، فقال الشياطين: ابنوا له بنياناً يرى ذلك منها فلا يتزوجها، فبنوا له صرحاً من قوارير خضر وجعلوا له طوابيق من قوارير بيض، فبقي كأنّه الماء، وجعلوا تحت الوطابيق صور دوابّ البحر من السمك وغيره، وقعد سليمان على كرسيّ ثمّ أمر فأدخلت بلقيس عليه، فلمّا أرادت أن تدخله ورأت صور السمك ودواب الماء حسبته لجة ماء فكشفت عن ساقيها لتدخل، فلمّا رآها سليمان صرف نظره عنها و{قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} النمل: 44.
فاستشار سليمان في شيء يزيل الشعر ولا يضرّ الجسد، فعمل له الشياطين النّورة، فهي أول ما عملت النّورة، ونكحها سليمان وأحبها حبّاً شديداً وردّها إلى ملكها باليمن، فكان يزورها كل شهر مرة يقيم عندها ثلاثة أيام.
وقيل: إنّه أمرها أن تنكح رجلاً من قومها فامتنعت وأنفت من ذلك، فقال: لا يكون في الإسلام إلاّ ذلك، فقالت: إن كان لا بدّ من ذلك فزوجني ذا تبّع ملك همدان، فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبّع على الملك، وأمر الجن من أهل اليمن بطاعته، فاستعملهم ذو تبّع، فعملوا له عدّة حصون باليمن، منها سلحين ومراوح وفليون وهنيدة وغيرها، فلما مات سليمان لم يطيعوا ذا تبّع وانقضى ملك ذي تبّع وملك بلقيس مع ملك سليمان.
وقيل: إن بلقيس ماتت قبل سليمان بالشام وإنّه دفنها بتدمر وأخفى قبرها.

.ذكر غزوته أبا زوجته جرادة ونكاحها وعبادة الصنم في داره وأخذ خاتمه وعوده إليه:

قيل: سمع سليمان بملك في جزيرة من جزائر البحر وشدّة ملكه وعظم شأنه، ولم يكن للنّاس إليه سبيل، فخرج سليمان إلى تلك الجزيرة وحملته الريح حتى نزل بجنوده بها فقتل ملكها وغنم ما فيها غنم بنتاً للملك لم ير الناس مثلها حسناً وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت على قلّة رغبة فيه، وأحبها حباً شديداً، وكانت لا يذهب حزنها ولا تزال تبكي، فقال لها: ويحك ما هذا الحزن والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت: إنّي أذكر أبي وملكه وما أصابه فيحزنني ذلك، قال: فقد أبدلك الله ملكاً خيراً من ملكه وهداك إلى الاسلام، قالت: إنه كذلك ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى، فلو أمرت الشياطين فصوّروا صورته في داري أراها بُكرة وعشية لرجوت أن يذهب ذلك حزني.
فزمر الشياطين فعملوا لها مثل صورته لا ينكر منها شيئاً، وألبستها ثياباً مثل ثياب أبيها، وكانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عله في جواريها فتسجد له ويسجدن معها، وتروح عشيّة ويرحن، فتفعل مثل ذلك، ولا يعلم سليمان بشيء من أمرها أربعين صباحاً.
وبلغ الخبر آصف بن برخيّا، وكان صدّيقاً، وكان لا يُردّ من منازل سليمان أيّ وقت أراد من ليل أو نهار سواء كان سليمان حاضراً أو غائباً، فأتاه فقال: يا نبيّ الله قد كبر سني ودقّ عظمي وقد حان منّي ذهاب عمري وقد أحببت أن أقوم مقاماً أذكر فيه أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما يجهلون، قال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام آصف خطيباً فيهم فذكر من مضي من الأنبياء وأثنى عليهم حتى انتهى إلى سليمان فقال: ما كان أحلمك في صغرك، وأبعدك من كلّ ما يكره في صغرك، ثم انصرف.
فملئ سليمان غضباً، فأرسل إليه وقال له: يا آصف لمّا ذكرتني جعلت تثني عليّ في صغري وسكتّ عمّا سوى ذلك، فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ قال: إن غير الله ليعبد في دارك أربعين يوماً في هوى امرأة، قال: {إنا لله وإنا إليه راجعون} البقرة: 156، لقد علمت أنك ما قلت إلاّ عن شيء بلغك، ودخل داره وكسر الصنم وعاقب تلك المرأة وجواريها، ثمّ أمر بثياب الطهارة فأتى بها، وهي ثياب تغزلها الأبكار اللائي لم يحضن ولم تمسّها امرأة ذات دمٍ، فلبسها وخرج إلى الصحراء وفرش الرماد ثمّ أقبل تائباً إلى الله وتمعك في الرماد بثيابه تذلّلاً لله تعالى وتضرعاً، وبكى واستغفر يومه ذلك ثم عاد إلى داره.
وكانت أمّ ولد له لا يثق إلا بها يسلّم خاتمه إليها، وكان لا ينزعه إلا عند دخول الخلاء، وإذا أراد أن يصيب امرأة فيسلمه إليها حتى يتطهّر، وكان ملكه في خاتمه، فدخل في بعض تلك الأيام الخلاء وسلم خاتمه إليها، فأتاها شيطان اسمه صخر الجّنّي في صورة سليمان فأخذ الخاتم وخرج إلى كرسي سليمان، وهو في صورة سليمان، فجلس عليه، وعكفت عليه الإنس والجن والطير، وخرج سليمان وقد تغيّرت حاله وهيذته، فقال: خاتمي فقالت؛ ومن أنت؟ قال: أنا سليمان، قالت: كذبت لست بسليمان قد جاء سليمان وأخذ خاتمه مني وهو جالس على سريره فعرف سليمان خطيئته فخرج وجعل يقول لبني اسرائيل: أنا سليمان، فيحثون عليه التراب، فلمّا رأى ذلك قصد البحر وجعل ينقل سمك الصيادين ويعطونه كل يوم سمكتين يبيع إحداهما بخبز ويأكل الأخرى، فبقي كذلك أربعين يوماً.
ثمّ إنّ آصف وعظماء بني اسرائيل أنكروا حكم الشيطان المتشبّه بسليمان، فقال آصف: يا بني اسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم سليمان ما رأيت؟ قالوا: نعم، قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه وأسألهنّ هل أنكرن ما أنكرنا منه، فدخل عليهنّ وسألهنّ، فذكرن أشدّ مما عنده، فقال: {إنا لله وإنا إليه راجعون} {إن هذا لهو البلاء المبين} الصافات: 106.
ثمّ خرج إلى بني اسرائيل فأخبرهم، فلما رأى الشيطان أنهم قد علموا به طار من مجلسه فمرّ بالبحر فألقى الخاتم فيه، فبلعته سمكة واصطادها صيّاد وحمل له سليمان يومه ذلك فأعطاه سمكتين، تلك السمكة إحداهما، فأخذها فشقّها ليصلحها ويأكلها فرأى خاتمه في جوفها، فأخذه وجعله في إصبعه وخرّ لله ساجداً، وعكفت عليه الإنس والجنّ والطير وأقبل عليه الناس ورجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وبث الشياطين في إحضار صخر الذي أخذ الخاتم، فأحضروه، فنقب له صخرة وجعله فيها وسدّ النقب بالحديد والرصاص وألقاه في البحر.
وكان مقامه في الملك أربعين يوماً، بمقدار عبادة الصنم في دار سليمان.
وقيل: كان السبب في ذهاب ملكه أنّ امرأة له كانت أبرّ نسائه عنده تسمّى جرادة ولا يأتمن على خاتمه سواها، فقالت له: إنّ أخي بينه وبين فلان حكومة وأنا أحبّ أن تقضي له، فقال: أفعل، ولم يفعل، فابتُلي، وأعطاها خاتمه ودخل الخلاء، فخرج الشيطان في صورته فأخذه، وخرج سليمان بعده فطلب الخاتم فقالت: ألم تأخذه؟ قال: لا، وخرج من مكانه تائهاً وبقي الشيطان أربعين يوماً يحكم بين النّاس، ففطنوا له وأحدقوا به ونشروا التوراة فقرأوها، فطار من بين أيديهم وألقى الخاتم في البحر، فابتلعه حوت، ثمّ إن سليمان قصد صياداً وهو جائع فاستطعمه وقال: أنا سليمان، فكذبه وضربه فشجّه، فجعل يغسل الدّم، فلام الصيادون صاحبهم وأعطوه سمكتين إحداهما التي ابتلعت الخاتم، فشقّ بطنها وأخذ الخاتم، فردّ الله إليه ملكه، فاعتذروا إليه، فقال: لا أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم.
وسخر الله له الجن والشياطين والريح، ولم يكن سخّرها له قبل ذلك، وهو أشبه بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب والشياطين كلّ بناءٍ وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد} ص: 37.
وقيل في سب زوال ملكه غير ذلك، والله أعلم.